سار عبد الرحمن بن محمد الملقب بالناصر لدين الله على نهج عبد الرحمن الداخل، فجاهد الكفار وردهم بغيظهم وكانت ولايته كلها جهاد في سبيل الله، وكان لا يمل الغزو في سبيل الله مدة ولايته التي استمرت خمسين سنة، لم يعرف خلالها طعماً للرحة فقد وجد بخطه تأريخ قال فيه: أيام السرور التي صفت لي دون تكدير في مدة سلطاني يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا. فعدت تلك الأيام؛ فوجد فيها أربعة عشر يوما.
كان عبد الرحمن بن محمد الأموي الذي لقب فيما بعد بالناصر لدين الله وأول من لقب بأمير المؤمنين من أمراء الأندلس الكثير من الفتوحات في الأندلس.
قال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء:لم يزل عبد الرحمن يغزو حتى أقام العوج، ومهد البلاد، ووضع العدل، وكثر الأمن، ثم بعث جيشا إلى المغرب، فغزا برغواطة بناحية سلا، ولم تزل كلمته نافذة، وسجلماسة، وجميع بلاد القبلة، وقتل ابن حفصون.
وصارت الأندلس أقوى ما كانت وأحسنها حالا، وصفا وجهه للروم، وشن الغارات على العدو، وغزا بنفسه بلاد الروم اثنتي عشرة غزوة، ودوخهم، ووضع عليه الخراج، ودانت له ملوكها، فكان فيما شرط عليهم اثنا عشر ألف رجل يصنعون في بناء الزهراء التي أقامها لسكناه على فرسخ من قرطبة.
وساق إليها أنهارا، ونقب لها الجبل، وأنشأها مدورة، وعدة أبراجها ثلاث مئة برج، وشرفاتها من حجر واحد، وقسمها أثلاثا: فالثلث المسند إلى الجبل قصوره، والثلث الثاني دور المماليك والخدم، وكانوا اثني عشر ألفا بمناطق الذهب، يركبون لركوبه، والثلث الثالث بساتين تحت القصور.
وفُتح في عهده فتوحات كثيرة وكان لا يمل ولا يكل من الجهاد في سبيل الله ومن الفتوحات التي تمت في عهده فتح مطونية وكانت سنة 306هـ، وكان سببها أن المشركين تطاولوا على من كان بإزائهم من أهل الثغور، فأمر بالاحتفال في الحشد وجمع الرجال والتكثير من الأجناد والفرسان الأبطال. وعهد إلى حاجبه بالغزو بنفسه في الصائفة. ونفذت كتبه إلى أهل الأطراف والثغور بالخروج إلى أعداء الله، والدخول في معسكره، والجدّ في نكاية أهل الكفر، والإيقاع بهم في أواسط بلادهم، ومجتمع نصرانيتهم.
------------------------------------
كانت البلاد في عهد عبد الرحمن الناصر –رحمه الله- تعيش في رخاء منقطع النظير، فكثرت الأموال؛ حتى بلغت ميزانية الدولة ستة ملايين دينارٍ ذهبيٍّ، كان يقسمها ثلاثة أقسام كجدِّه عبد الرحمن الداخل -رحمه الله: ثلثًا للجيش، وثلثًا للبناء والمعمار والمرتبات وما إلى ذلك، والثلث الأخير للادِّخار لنوائب الزمن.
ونمت الزراعة نموًّا مزدهرًا؛ فتنوَّعت أشجار الفواكه والمزروعات من قصب السكر والأرز والزيتون والكتان، وأوجد مزارع خاصة لتربية دودة القز، كما نَظَّم أقنية الري وأساليب جرِّ المياه، وجعل تقويمًا للزراعة لكل موسم (ومنها انتقلت الزراعة إلى أوربا).
كان من اهتماماته -أيضًا- استخراج الذهب والفضة والنحاس، وكذلك صناعة الجلود وصناعة السفن وآلات الحرث، وكذلك صناعة الأدوية، وقام عبد الرحمن الناصر بإنشاء أسواق كثيرة متخصصة لعرض وتداول مثل هذه البضائع، فكان هناك -على سبيل المثال- سوق للنحاسين، وأخرى للحوم، بل كان هناك -أيضًا- سوق للزهور.
----------------------
ازدهر في عهد عبد الرحمن الناصر –رحمه الله- العلم والتعليم بصورة ملحوظة، وقد اهتمَّ كثيرًا بمكتبة قُرْطُبَة؛ تلك التي كانت قد تأسَّست قبل ذلك الوقت، فزاد كثيرًا في حجمها حتى بلغ عدد الكتب فيها أربعمائة ألف كتاب، وهو زمن لم تظهر فيه الطباعة بعدُ، وإنما كانت عن طريق النسخ اليدوي، الذي كان وظيفة النسَّاخين، فإذا أراد واحد من الناس أن يمتلك كتابًا ما عليه إلا أن يذهب إلى نَسَّاخ؛ فيذهب النساخ بدوره إلى مكتبة قُرْطُبَة فينسخ له ما يُريد.
وبأثر من هذا الجوِّ العلمي الزاهر، أوردت المصادر التاريخية وكتب التراجم والطبقات عددًا كبيرًا من الأسماء التي نبغت في هذه الفترة.
-------------
مَنْ يقرأ أو يسمع مثل ما سبق يجول في خاطره أن مثل هذا الرجل لم يكن يعرف إلاَّ طريقًا واحدًا، هو طريق العظمة والجدية التامَّة، طريق العزَّة وعدم الخنوع، وهذا وإن كان صحيحًا إلاَّ أن مَنْ ينظر إلى شخص عبد الرحمن الناصر -الذي ظلَّ يحكم البلاد من سنة (300هـ= 913م) إلى سنة (350هـ= 961م) نصف قرن كامل- لَيَرَى العَجَبَ العُجاب؛ فقد كان –رحمه الله- مع كل هذا السلطان وهذا الصولجان دائمَ الذِّكْر لربه سريع الرجوع إليه.
حدث ذات مرَّة قحط شديد في الأندلس، فأرسل الناصر رسولاً من عنده يدعو القاضي منذر بن سعيد –رحمه الله- بإمامة الناس في صلاة الاستسقاء، فقال منذر للرسول: ليت شعري ما الذي يصنعه الخليفة سيدنا؟ فقال له: ما رأينا قط أخشع منه في يومنا هذا؛ إنه منتبذ حائر منفرد بنفسه، لابس أخس الثياب، مفترش التراب، وقد رمد به على رأسه وعلى لحيته، وبكى واعترف بذنوبه، وهو يقول: هذه ناصيتي بيدك، أتراك تُعَذِّب بي الرعية وأنت أحكم الحاكمين؟! لن يفوتك شيء مني. قال الحاكي: فتهلَّل وجه القاضي منذر عندما سمع قوله، وقال: يا غلام؛ احمل المطر معك؛ فقد أذن الله تعالى بالسقيا، إذا خشع جبار الأرض، فقد رحم جبار السماء. وكان كما قال، فلم ينصرف الناس إلاَّ عن السقيا».
وكان يقول الشعر -أيضًا- ومن شعره في أمر بنائه مدينة الزهراء: [الكامل]
هِمَمُ المُلُوكِ إِذَا أَرَادُوا ذِكْرَهَا *** مِنْ بَعْدِهِمْ فَبِأَلْسُنِ الْبُنْيَانِ
إِنَّ الْبِنَاءَ إِذَا تَعَاظَمَ شَأْنُهُ *** أَضْحَى يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ الشَّانِ
---------------
قال عنه الذهبي: كان شجاعًا شهمًا محمود السيرة، لم يزل يستأصل المتغلِّبين حتى تم أمره بالأندلس، واجتمع في دولته من العلماء والفضلاء ما لم يجتمع في دولة غيره، وله غزوات عظيمة ووقائع مشهورة، قال ابن عبد ربه: قد نَظَمتُ أُرجوزة ذكرتُ فيها غزواته. قال: وافتتح سبعين حصنًا من أعظم الحصون، ومدحه الشعراء.
وقال عنه الصفدي: ولم يكن بعد عبد الرحمن الداخل أجزل منه - أي الناصر - في الحروب، وصحة الرأي، والإقدام على المخاطرة والهول، حتى نال البُغيَة... فرتب الجيوش ترتيبًا لم يُعهَدْ مثلُه قبله، وأكرم أهل العلم، واجتهد في تخيُّر القضاة، وكان مُبَخَّلاً لا يُعطي ولا يُنفق إلاَّ فيما رآه سدادًا.
وها هو ذا يُتَوَفَّي –رحمه الله- في رمضان سنة (350هـ= 961م) عن اثنين وسبعين عامًا، وقد وجدوا في خزانته ورقة كان قد كتبها بخط يده، عدَّ فيها الأيام التي صَفَتْ له دون كدر؛ فقال: «في يوم كذا من شهر كذا في سنة كذا صفا لي ذلك اليوم». فعدُّوها فوجدوها أربعة عشر يومًا فقط.
المصدر: http://islamstory.com/ar/%D8%B9%D8%A8%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%AD%D9%85%D9%86_%D8%A8%D9%86_%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A7%D8%B5%D8%B1_%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86_%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87